الاثنين، 18 يونيو 2012

"أوراق" عن أژواد/ بقلم الدكتور محمد محمود ودادي





(1)

جمهورية مالي


استقلت باسم اتحاد مالي في 20 يونيه 1960 ثم أعلن الاستقلال من جديد في 20 شتنبر 1960 بعد الانفصال عن سنغال. تبلغ مساحتها 1240190 كلم 2 ( منها 822000 كلم2  في أژواد) وسكانها حوالي 11 مليون نسمة (منهم مليونان في أژواد)، هذه الدولة وريثة جزء كبير من إمبراطورية غانة، التي تأسست في القرنين 4و5 م في موريتانيا وعاصمتها كومبي صالح، قبل أن تسقط في أيدي المرابطين في القرن 11م، وهي أيضا وريثة إمبراطورية ملّي (مالي) (القرن14) قبل سقوطها على يد إمبراطورية صونغاي (القرن 15) ثم دمر هذه الغزو المغربي (نهاية القرن 16).

أژواد، تحده من الشمال الجزائر ومن الشرق النيجر ومن الجنوب والجنوب الغربي نهر النيجر، وأراضي مالي، ومن الغرب موريتانيا. ومدنه الرئسية: ڴاوو (العاصمة)  تنبكتو (العاصمة الثقافية) كيدال، والثلاث هي عواصم الولايات التي يتشكل منها الإقليم اليوم حسب التقسيم الإداري لجمهورية مالي. واسم الإقليم أمازيغي، ربما مشتق من اسم نهر "زواد" الناضب، ويطلق أژواد على القسم المالي من الصحراء الكبرى، وأزواڴ على الجزء النيجري بما فيه حواضر طاوه وأڴادس.


وتسكن الإقليم مجموعات الطوارق المنتشرون في كل الإقليم، إضافة إلى العرب ، وهم أساسا البرابيش في الغرب، وكنته في الوسط والجنوب، والصونغاي والفلان في الجنوب والجنوب الغربي، ويتحدث هؤلاء خمس لغات هي تماشق (الطوارق) الحسانية (العرب) الصونغائية أو كوروبورو (الصنونغاي) الفلانية ( إفلان). أما الموارد فظلت على مدى التاريخ تربية الماشية التي اضمحلت في العقود الماضية بسبب الجفاف والحروب، التي أجبرت أعدادا كبيرة من السكان على الهجرة. ويوجد مخزون نفطي غير محدد الحجم، كما يوجد أورانيوم ومجموعة من المعادن المختلفة، لكنها غير مستغلة. ويعتمد السكان المجاورون للنهر في رأس الماء والعقفة وفي ضفته اليمنى في ڴورمه على زراعة القليل من أنواع الذرة والخضروات، والصيد النهري، لمن سكان المراكز الصحراوية يعتمدون أساسا على ما يبعثه أبناؤهم من الخارج وعلى موارد التهريب، الذي تمتهنه مجموعات جعلت من الإقليم معبرا أيضا لتجارة المخدرات، التي تدر عليهم موارد كبيرة.


لمحة تاريخية


يُجمع المؤرخون على أن أول من أقام مدينة ڴاوو ثم تينبكتو هم قبائل لمطه وبعض من لمتونة، وقبيلة تارڴه، ومن هذه المجموعات يتألف شعب أژواد الأمازيغي، الذي تعرب البعض منه ليصبح في عداد القبائل المستعربه مثل كلنصر الغربيين، وبعض المجموعات في كنته والبرابيش. أما الهجرة العربية الحديثة فكانت في نهاية القرن 15 على أيدي البرابيش القادمين من شمال موريتانيا عن طريق آدرار والظهر، وهم في أغلبيتهم من قبائل بني حسان، حيث تنحدر الأرومة الرئيسية من حمُّ بن حسان، وعبد الرحمن بن حسان (الرحامنه). وتبعهم الكنتيون في سنة 1130هـ 1717م انطلاقا من الساقية الحمراء، عبر تْوات والحنك وأرڴشاش.


تحدث الرحالة والإخباريون عن أژواد في بداية القرن 14م كإقليم يتمتع بحكم ذاتي تابع مع صحرائه لإمبراطورية مالي، لكنها فقدت السيادة عليه في  حدود 1433م؛ وفي عام 1591 احتل سلطان المغرب أحمد الذهبي الإقليم وحواضره بعد أن قضى على إمبراطورية الصونغاي المسلمة؛ ومن ذلك التاريخ لم يخضع أژواد لسيطرة مركزية منتظمة حتى وصول الاستعمار الفرنسي عام 1893، والذي حيث جوبه بمقاومة شديدة من الطوارق والعرب..


موريتانيا وأژواد


ظل شعب البيظان على طول تاريخه يعتبر أژواد امتدادا له، فقبل دخول الإسلام كان موطنا لقبائل البربر التي يعود إليها  سكانه من التوارق، وبعض أطراف صنهاجة، التي ينتمي إلى فروعها المختلفة غالبية سكان غرب الصحراء وشمالها، ومع دخول الإسلام وانتشاره، انتمت أژواد أو أطراف واسعة منها لدولة الإسلام الكبرى "المرابطون" في الطرف الغربي، فانضوت قبائل هذه المنطقة الشاسعة، تحت لواء الإسلام، وازداد التمازج بين أبنائها، ووقعت الهجرات المتبادلة، فشرّق البعض وغرَب الآخر، لنرى في موريتانيا الحالية أقواما من أصول تارقية أژوادية، وأخرى لمتونية في الشرق.  ثم جاء الانتشار العربي في الصحراء الكبرى، ليعم كل أجزائها حتى أژواد، وتزداد الروابط قوة، ويتعزز التواصل، الذي بلغ أوجه بعلاقات حواضر موريتانيا القديمة بقواعد أژواد الكبرى.


هذه العوامل، وغيرُها جعلت من أژواد وموريتانيا صنوان، يكمل أحدهما الآخر، على طول المساحة الشاسعة التي يحتلانها في الصحراء والغرب الإفريقيين؛ وحتى في عصور غياب الدولة المركزية، ظلت العلاقات قائمة، بل نشطة بين  الطرفين، ترجح كفتُها أحيانا لأژواد، خاصة بعدما تدهورت أوضاع مدن القوافل الغربية: ودان وشينقط وتيشيت وولاته لصالح تنبكتو وڴاوو، الأژواديتين، إذ أصبحت الأولى أشهر حاضرة إسلامية في الصحراء الكبرى وجوارها، بفضل مدارسها وعلمائها الأجلاء الذين كان من أشهرهم أحمد بابا بن محمد إقيت الصنهاجي، الذي انتشر صيته حتى بلغ الشمال الإفريقي، أيام محنته، عند سقوط دولة السونغاي في مستهل القرن 11 هـ (نهاية القرن 16م). ثم جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان (18و19م) لتختطف أژواد الأضواء من جديد بظهور الشيخ سيدي المختار الكبير، وخلفائه، الذين صاروا قبلة للبيظان عامة، وللطامحين إلى الارتواء من العلم، وهديه في الغرب الإسلامي، حتى تشاد شرقا والمحيط الأطلسي غربا، ومن أدغال جنوب الصحراء جنوبا إلى تخوم الجزائر والمغرب شمالا، مما أعاد لهذا الحيز إشعاعه الثقافي والديني، وعزز اللحمة بين الصنوين الشرقي والغربي، فحُفرت أژواد في الذاكرة الجمعية، كامتداد لثقافة البيظان وجزء من تاريخهم.

(2)

كانت أزواد إلى جانب إشعاعها العلمي، مصدرا لأهم بضاعة تجارية في القرون الوسطى، وحتى نهايات القرن العشرين، باحتضان طرفها الشمالي الغربي لمعادن الملح في تغازة، ثم تاودني، وأجزائها الغربية لمعدن الذهب و كذلك الخرز" الحب الحر" المرغوب في الحيز الصحراوي والذي هو بقايا من حلي مواطني الحضارات القديمة حافظ على بريقه بفضل طمر الرمال، ويشكل حتى اليوم مصدرا مهما للتجارة البينية. واعترى هذه المكانة على امتداد القرون الأربعة الأخيرة مد وجزر، ارتبط بمآلات نهر النيجر، ومراكزه المؤثرة مثل ڴاو وتنبكتو وڴُندام حتى موبتي وچنى، فينزل استقرارها بردا وسلاما على الإقليم، والعكس صحيح. وقد شهد القرن التاسع عشر على الخصوص موجات اضطراب، بعد اضمحلال حكم الرماة شبه المركزي في تنبكتو، مما أدى إلى ظهور زعامات محلية دينية وسياسية، كان آخرها دولة ماسينا الفلاّنية بقيادة شيخُ أحمُد، التي بسطت سلطتها على عقفة النهر حتى تنبكتو، بمباركة زعماء الحضرة الكنتية وعلى رأسهم الشيخ سيدي البكاي  بن الشيخ سيدي محمد، إلى أن أسقطها خلفاء الحاج عمر، قبل تعرض الإقليم كله للاحتلال الفرنسي، ليبدأ القهر الحضاري والاستلاب والثقافي.


وقد استخدم المحتلون القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة مما أدى إلى معاناة شديدة من أخطرها التشرد في المناطق المجاورة مثل النيجر قبل احتلاله، وتشاد وتونس وليبيا، حيث تجاوز المهاجرون الجزائر الخاضعة للقبضة الفرنسية الحديدية، وهكذا عانى أزواد أكثر مما عانت جل المناطق المماثلة، عقابا على مقاومة شرائح كثيرة منه، بقيادة زعمائه من التوارق والعرب، الذين امتشقوا السيف والبندقية ثلاثين سنة، فخلدوا الشجاعة والإيباء الذي عُرف عن أجدادهم الملثمين في الصحراء وفي فتوحات المرابطين في الغرب والشمال الإفريقي والأندلس، فكانوا نبراسا للأحفاد يضيء طريق مقاومتهم الدينية والثقافية، كما في الصنو الغربي: موريتانيا.

ومع عشرينات القرن الماضي عاد معظم المهّجرين إلى وطنهم، واستأنفوا حياتهم الطبيعية، وأنشطتهم التقليدية في الرعي والتجارة، خاصة منها البضاعة التي خبروها طوال قرون وهي الملح، الذي يعتمد عليه سكان جنوب النهر حتى كوت ديفوار، واستعادوا مجالات ترحالهم التاريخية، يدخلون - دون أوراق أو مراقبة - الجزائر والنيجر وموريتانيا، ويقطعون النهر إلى فلتا العليا (بوركينا فاصو) وكوت ديفوار للتزود بحاجاتهم من الغذاء والمواد الزراعية والأقمشة، ليعودوا إلى عزلتهم في صحرائهم، هروبا بدينهم من المحتل القابع في المدن والمراكز الحضرية، والذي لا يعنيه من أمر البدو إلا ما يتصل بضرورات أمنه، واستيفاء إتاواته عن الماشية والتجارة، لا يدركون ما يبيّت من خطط حول مستقبلهم؛ باستثناء أفراد من التجار والوجهاء ممن توكل إليهم مهمة تسوية مشاكلهم في المراكز الحضرية، التي تعدّ على رؤوس الأصابع؛ حيث توجد إدارة لا يعرفون لغتها الفرنسية، ولا يشتركون مع أهلها في الكثير من العادات والتقاليد، رغم التعايش ضمن الحيز الجغرافي المشترك، ووحدة الدين.

وعندما حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأت الدول الأوروبية تعيد النظر في مستقبل علاقاتها مع مستعمراتها، لضرورات إستراتيجية مرتبطة بالتحولات التي يشهدها العالم، ولصيانة مصالحها وضمان مكانتها، فأعادت النظر في وضع المستعمرات، فألغت بعضها وضمته لأخرى، وقلصت من حجم البعض لصالح الآخر، وفي كل ذلك ارتكبت أخطاء فادحة، منها عدم مراعاة الأبعاد الجغرافية والإنسانية (الدين والثقافة) ولا الموارد التي يمكنها أن تضمن البقاء لهذه الكيانات، مما جعل العديد منها مصطنعا، ما لبث أن أصبح مصدرا دائما للاضطرابات والفتن، تدارك الاستعمار بعضه في الجزء الغربي من تراب البيظان – في الأربعينات - بالتراجع عن ضم الحوض للسودان وإعادة أجزاء كبيرة منه لأصله وفرعه موريتانيا.

وفي خضم هذه التطورات بدأ الوعي يتسرب إلى النخبة من الشيوخ والوجهاء والتجار في أزواد، ومعه إدراك واقعهم كجزء من مستعمرة السودان، التي لم تعد تضم إقليم الحوض، الذي كان "يوسّع" عليهم، فأصبحوا أقلية لا وزن لها أمام الهيمنة الكاسحة لسكان الجنوب والغرب من الَكْور، الذين كان الاستعمار قد بذل جهوده لعزلهم عن إرثهم الحضاري والثقافي، بحربه على اللغة العربية والحرف العربي الذي كان سائدا في القارة السمراء بأسرها وعلى الخصوص في الغرب الإفريقي، تكتب به أكثر من 30 لغة، منها اللغات الرئيسية كالفلانية والماندينڴية والهوساتية والزرماتية والسواحيلية واليوروباوية لتكون العربية رابطا بين الناطقين بهذه اللغات، وبينهم والمسلمين كافة، فكانت تلك أولى التحديات الذي جاء الاستعمار لرفعها، ولم يغادر إلا بعد أن انتصر فيها وغرق الناس في بحر من التنافر، أذكى الصراعات المتصاعدة.
وقد عبر الوجهاء الأزواديون بما يملكون من جهد عن قلقهم على مستقبلهم للإدارة، التي كانت ما تزال تحت السيطرة المباشرة للفرنسيين، لكنهم كانوا غير مبالين كثيرا بما يصدر عن أفراد، لا تدعمهم تجمعات حضرية، ذات وزن ضاغط. وأقصى ما كانوا يفعلونه "طمأنتهم"  "بأنهم سيظلون أحرارا في بواديهم، كما كانوا، ولن تكون لأحد بعد الفرنسيين سيطرة عليهم" (إشارة إلى حكام الكور)!. إلا أن تسارع المسيرة إلى الاستقلال والتمهيد لها بالحكم الذاتي، بدأ يرسخ الأمر الواقع، وهي كون أزواد فضاءً مكمّلا لمستعمرة السودان، التي يقع ثقلها في الغرب، حول أعالي نهري النيجر والسنغال، بحواضره التاريخية ذات الكثافة السكانية، والمصادر الزراعة والمائية، والتي حظي سكانها بالتمدرس والخدمات، وأصبحوا السادة الجدد، بيدهم الإدارة والجيش والثروة. بينما أهملت فرنسا طوال احتلالها أزواد، رغم موقعه الاستراتيجي وثرواته المعدنية والنفطية والغازية، وتميزه الثقافي بلغاته ونمط عيشه،  مما يؤله ليتمتع بحكم إداري يضمن تسييرا ذاتيا، ضمن مستعمرة السودان (مالي).

وعوضت عن ذلك بإطلاق بارقة "أمل" بثتها في السكان سنة 1957، مرتبطة بخططها لوقف حرب التحرير الجزائرية، الذي تفتَقت عنه عبقرية ساستها وهو مشروع يقسّم الجزائر إلى شطرين: الشاطئ والوسط، حيث الكثافة السكانية، والجنوب والشرق، فتَمنح للأول الاستقلال، ويبقي الآخر تحت الحكم الفرنسي، بواسطة كيان جديد سمته "المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية" O.C.R.S.) ) تضم غالبية مساحة الصحراء الجزائرية، بمدنها الكبرى مثل بشار وتندوف، وحقول النفط ومناطق التجارب الذرية، والأراضي المأهولة بالطوارق والعرب في النيجر (طاوه وأزواڴ) ومالي (أزواد مع ريف مدينتي تنبكتو وڴاوو) ومواطن التوبُّو والقُرعان في شمال تشاد (جميع مقاطعة بلتيم، ومثلث بوركو – أنّدي- تيبستي) (قانون 10 يناير 1958) وعينت للكيان الجديد إدارة تنفيذية ومجلسا استشاريا، وتركت الباب مشرّعا للدول والمنظمات التي تريد التعاون مع الكيان الوليد؛ الذي سوقته للطوارق والتوبُّو والعرب، الذين يشكلون أقليات في مستعمراتها ذات الغالبية الْكَوْرية، فوجدت لدى الكثيرين من زعمائهم آذانا صاغية، على أمل أن يستعيدوا حقوقهم ومكانتهم التي فقدوها، في ظل الاستعمار؛ لكن الثوار الجزائريين رفضوا أي مساس بأرضهم، كما عارضه المختار بن داداه، وموديبو كيتا رئيس مالي، لكونه سيقتطع منه أزواد، أما رئيس النيجر هامني چوري وفرانصوا تنبلباي في تشاد، فقد انحنيا حتى تمر العاصفة، لأنهما لا يريدان إغضاب الجنرال دڴول، هذا في وقت أيدت المشروع دول في المغرب العربي وغرب إفريقيا أو تعاطفت معه، انطلاقا من حسابات ذاتية، لكن ذلك لم يَحلْ دون موت المشروع نهائيا (قانون تصفيته 26 مايه سنة 1963.).


وهكذا خاب الأمل الذي علّقه زعماء أزواد على المشروع، ولم تفلح محاولاتهم في ثني المختار بن داداه عن موقفه، الذي اعتبروه تقصيرا في حق شعب أزواد من صنوه المعوّل عليه، ولم تقنعهم حجة رئيس حكومة الاستقلال الداخلي الموريتانية بـ "أنه لن يؤيد محاولة فرنسا طعن الثورة الجزائرية من الخلف بإجهاض مشروعها عبر اقتطاع أجزاء من أرضها" في وقت يكاد الجزائريون يرون بالعين دولتهم الحرة تطل على العالم من الباب الواسع، بصحرائها وثرواتها؛ بينما بقي بصيص أمل وهو انضمام أزواد لموريتانيا، قبل أن يعلن استقلاها واستقلال مالي، وتعزز الأمل بتصريحات المختار باعتبار "أزواد والصحراء الغربية جناحي موريتانيا" (خطاب أطار 1957) التي استهجنها الفرنسيون والإسبان، وأغضبت موديبو كيتا وجعلته ينضم إلى المعسكر المناوئ لاستقلال موريتانيا، فاحتضن "جيش تحرير موريتانيا" في باماكو، وصوتَ ضد دخولها الأمم المتحدة؛ واستمر يضغط بكل الوسائل على نواكشوط، خاصة بترسيم الحدود المتداخلة بين الدولتين، التي تركها الاستعمار في وضع غامض كالعادة؛ حتى قبل المختار في قمة خاَيْ مع موديبُو معظم مطالبه، مدركا أن لا قبل له بمواجهة جاريْه الشمالي والجنوبي في آن واحد؛ وانكفأت موريتانيا على ذاتها تصارع من أجل البقاء، محتمية باعتراف ومؤازرة غالبية الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، (وتونس من المغرب العربي) ثم بمنظمة الوحدة الإفريقية التي جعلت من احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، قضية مقدسة. واتضح أن الدعوة إلى الوحدة مع أزواد لم تكن إلا تعبيرا عن فورة عاطفية لزعيم دولة البيظان الغارقين في أحلامهم بإعادة أمجادهم في مجالهم الجغرافي والثقافي، حتى ولو كان دون تحقيقها آنذاك خرط القتاد.

(3)

فشل اتحاد مالي وإعلان الاستقلال 

 في 4 إبريل 1959 حدث تطور مهم هو قيام اتحاد باسم مالي بين سنغال والسودان وحدهما، بينما كان الطموح ضم مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي، التي قبل البعض من زعمائها الفكرة في مؤتمر بماكو من العام نفسه، كفلتا العليا وداهومى، بينما رفضتها موريتانيا
 لأسباب وجيهة، تتعلق بتركيبتها السكانية وموقعها الجغرافي الذي يحتم عليها مراعاة التوازن في علاقاتها بشمال إفريقيا وغربها، وهو المنطق الذي أقنع به المختار بن داداه حليفه وصديقه سيد المختار بن يحيى انچاي، مما جر عليه غضب قادة الدولة الجديدة.  أما هوفويت بوانيى فكان ضد الفكرة أصلا، مما حدا بواغدڴو وكوتونو إلى التراجع باكرا عن موقفيهما، ويكونان مع أبدجان ونيامى مجموعة دول الوفاق. وقد أعلن استقلال الدولة الجديدة في 20 يونيه 1960، لكن عقدها أنفرط أقل من شهرين بعد ذلك، وأعلنت سنغال الانفصال، وأبعدت موديبو كيتا بطريقة مذلة، وكذلك الوزراء السودانيين في الحكومة الاتحادية والضباط وكبار الموظفين بالقطار إلى بماكو، يوم 21 أغشت، ثم يعلن استقلال السودان من جديد في 20 شتنبر 1960، باسم مالي.
  لم يكن في أژواد أي أثر للاحتفال بهذه المناسبة، لأن الغالبية تعيش في عالمها المنعزل، أما القلة المتابعة للأحداث من الوجهاء فكان صدمة لهم، لأنهم كانوا يتوقعون إقامة المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية التي مُنّوا بالانضمام إليها والانفصال عن السودان، لتتحقق مطالبهم الوطنية في دولة خاصة بطوارق الصحراء الكبرى والمجموعات المهمشة ذات الأصول الأمازيغية في شمال تشاد.
  ومما يؤكد الاتهامات لفرنسا بأن مشروعها بتكوين موطن للأقليات الأمازيغية في الصحراء لم يكن إلا للإبقاء على الجزء الأكبر من الجزائر، كونها لم تحرك ساكنا خلال فترة الاحتلال، لتنصف تلك الأقليات وتعتني بأقاليمها التي تشكل أحيانا مساحاتها الجغرافية أغلبية أراضي الدول المعنية كأژواد، الذي ظل مربوطا بالسودان، لا يتمتع بما للأقاليم الأخرى من حظوة في التنمية والخدمات، ولا هو إقليم متميز بحكم إداري يضمن له تسيير شؤونه الذاتية، ويراعي خصوصياته الجغرافية والثقافية ونمط عيشه، ويعتني بتنمية موارده.
وفور قيام الدولة الجديدة تنمرت على أهل أژواد، في سعي واضح لتقتل في وجدانهم أي أمل في التميز عن بقية أقاليمها؛ فشددت قبضتها على الأرض والسكان، واستهدفت خصوصيتهم الثقافية، فشرعت في محاربة اللغة العربية، بمنع أي دعم حكومي لتعليمها في المدارس الرسمية، وضايقت المدارس الأهلية من كتاتيب ومحاظر، حتى التي تتمتع بشهرة إقليمية في جوامع ومساجد تنبكتو وڴاوو، أو في المراكز والبوادي، وبذلك كانت الحارس الأمين لمشروع فرنسا بالقضاء على اللغة العربية والحرف العربي، الذي كان أحد ركائز السياسة الفرنسية في مستعمراتها ، وكان ذلك سببا رئيسيا في التنافر بين السكان والأجناس الذين وحدهم على مدى التاريخ الإسلام واللغة العربية وحرفها. وقد ألغت السلطات الرسمية اسم أژواد من الأدبيات الإدارية والسياسية، ووزعت الإقليم إلى ولايتين ثم ثلاث، أسماؤها أرقام متسلسلة.

  
موديبو كيتا يستعرض شباب حزبه

أصبح تطبيق القرارات التي اتخذها المؤتمر الطارئ لحزب الاتحاد السوداني الحاكم نهاية 1960 باعتماد الاشتراكية نهجا سياسيا، فتشكلت فورا شركات عمومية تسيطر على الاقتصاد والتجارة، فهيمنت الدولة على كل الأنشطة الاقتصادية من زراعة وتجارة وتنمية ماشية. وشرعت في تطبيق ذلك على البدو الرحل، فعبأت موظفي الإدارة المحلية وشباب الحزب لجمع مخيماتهم في أماكن قريبة من المراكز الحضرية، لتسجل في دواوينها المواشي وملاكها، بعد أن كان الأمر في العهد الفرنسي مجرد إقرار المالك بجزء يسير من مواشيه، يدفع عنه العشر، وتبع ذلك قرار أكثر غباءً، وهو إخضاع تجارة الماشية مع الدول المجاورة، وحتى مع بعض ولايات مالي الأخرى، لأذون خاصة، تحدد عددها ونوعها.
  وقد ظهرت على الفور معارضة بعض السياسيين والتجار والمزارعين لهذا النهج، ومن أبرزهم زعيما حزبين صغيرين يرأسهما اثنان من الزعماء السياسيين هما فيلي دابو سيسوكو، وحمادون ديكو، والتاجر قاسٌم تورى مما أدى بهم إلى الاعتقال، ثم الاغتيال، واشتد القمع مع اتساع المعارضة ليشمل التجار والمزارعين والمنمين، في مالي كلها، وكان لأژواد نصيبه، حيث تمت مضايقة تجار تنبكتو المنتشرين في المدن الرئيسية المالية، قبل أن تؤمم ممتلكاتهم أو تخضع للرقابة.
  وما أن حلت سنة 1963 حتى وصل أژواد ما حل بمالي الأخرى، من خنق للحريات السياسية والكساد الاقتصادي، وتدهور أوضاع البادية التي زادها حدة شح الأمطار الذي كان مقدمة لموجات الجفاف التي ضربت أژواد ومعظم مناطق الساحل والصحراء، مع تبخر مشروع المناطق الصحراوية نهائيا بعدما سكّن الخواطر فترة من الزمن، واستقلت دول الساحل ضمن حدودها الموروثة عن الاستعمار، وبسطت الجزائر سيادتها على صحرائها الشاسعة. وقد عبر عن حالة اليأس هذه بعض الزعماء الأژواديين الذين خاضوا معركة حصول أژواد على وضع سياسي وإداري يخرجه من محنته، ويضمن للسكان كل حقوقهم، معتبرين أن فرنسا قد خانتهم. وكان أبرز تلك الشخصيات محمد آعْلي بن الطاهر الأنصاري، وهو شخصية سياسية من الطراز الأول، ينتمي إلى قبيلة كلنصر، كرّس حياته لقضيته، فزار مع موريتانيا بعض الدول العربية، مثل الجزائر والمغرب وليبيا ومصر والسعودية، والتقى بزعمائها، مناشدا إياهم دعمه في حق أژواد في الخروج من قبضة الحكم المالي المتشدد، لكنه اصطدم بجدار من التحفظ والخوف لدى الأقربين، وجهل عرب المشرق بالقارة الإفريقية البعيدة عن مجالهم التقليدي كالسودان والحبشة وما جاورها .
ثورة في أزواد وقمع وحشي
  نتيجة للحالة المأسوية في الإقليم انطلقت احتجاجات عديدة في المدن والبوادي شارك فيها شباب ورجال، فواجهتها السلطات بالقمع والاعتقال الذي لاقوا فيه أنواع التنكيل، ولم تجد شفاعة رؤساء القبائل والوجهاء، لإطلاق سراحهم بل نقلوا إلى سجن كيدال سيئ الصيت، ليجدوا أمامهم معتقلين من سياسيي مالي البارزين، المعارضين للنظام، فعم الغضب ربوع أژواد، واندلعت ثورة 1963 التي قادها الطوارق، وخاصة أبناء قبيلة إفوُقاس المعروفة بقوة الشكيمة ورفض الضيم، وكان أحد رموزها انتالّه آڴ الطاهر سليل إحدى أهم أسرهم، فسيطروا على حاميات معظم مناطق الشمال الشرقي ذات التضاريس الجغرافية الوعرة كآدرار إفوقاس، وتلك الموجودة في الشمال الغربي من بوجبيه نحو تاودني حتى الحدود الجزائرية. وقد لقيت الثورة تعاطفا كبيرا من جميع السكان من طوارق وعرب، فانضمت إليها أعداد مهمة من الشباب، وأنهكوا خلال أشهر قليلة القوات المالية، باعتمادهم تكتيكات حرب العصابات، التي أبدعوا فيها، معتمدين على معرفتهم الجيدة للأرض وتعاطف السكان بشتى طوائفهم.
  واعتبر موديبو كيتا أن هدف ثورة أژواد هو انفصال الإقليم، بدعم من الخارج، لأسباب عنصرية أو لزعزعة النظام، فاعتبر من واجبه سحقها بدون هوادة، مما جعل المؤرخين يعتبرونها أكثر قسوة من تلك التي شنها الفرنسيون على مجاهدي المنطقة إبان احتلالها في القرن 19. وعلى الفور عبّأ موارد البلاد المالية، وشكل كتيبة تضم الوحدات المقاتلة الأساسية التي تركتها فرنسا وعلى رأسها القوات المحمولة (المظلات) التي صارت أفضل كتيبة ضمن جيش الدولة الوليدة، وقد أبلت بلاء حسنا في الكونغو عندما أُرسلت إليه سنة 1961 ضمن قوات الأمم المتحدة، رغم أنها فشلت في حماية پاتريس لومبا أحد قادة الاتجاه الثوري الاشتراكي الإفريقي، الذي ينتمي إليه موديبو كيتا.
  وقد تولى قيادة هذه القوة النقيب "بازاني" وهو ضابط شاب انخرط باكرا في قوات النخبة الفرنسية، وشارك سنوات عدة في حرب الجزائر ضد المجاهدين، حيث اعتبرته فرنسا من الأبطال ومنحته أرفع وسام للشجاعة، كما أنه يتمتع بخبرة كبيرة في القتال بالمناطق الجبلية والصحراوية مسرح تحركه الجديد؛ وقد اختار معه في قيادته مجموعة من الضباط وصف الضباط والجنود الذين خبرهم في القوات الفرنسية ثم في الكونغو، والذين لا يعصون له أمرا، وأُعْطي جميع الصلاحيات، بحيث لا يعود في قراراته إلى رئيس أركان الجيش ولا إلى وزير الدفاع، مما شكل سابقة قوبلت بتذمر من المؤسسة العسكرية .
  وكان أول قرار يتخذه القائد الجديد الذي تسمى بأسد الصحراء عزل المنطقة الشمالية التي تجري فيها العمليات بخط وهمي اعتبره أحمر، يلامس دشرة كيدال، ويمتد ف الجنوب الشرقي حتى حدود النيجر، وفي الشمال الغربي حتى حدود الجزائر وموريتانيا، وأمر السكان الرحل بإخلاء هذا الحيز خلال شهرين، والاستقرار جنوبه؛ ودخل في معارك طاحنة مع الثوار الذين انتصروا عليه في معظم المعارك، مما جعله يلجأ إلى التكتيك الذي خبره في حرب الجزائر، وخاصة منه التنكيل بسكان المخيمات؛ والتعذيب الممنهج الذي فاق في قسوته – أحيانا - ما تعلمه النقيب في قوات المظلات الفرنسية مع البدو والمزارعين الجزائريين. وأدت به الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواته من جراء الكمائن، إلى ابتكار صنوف من العذاب لم تخطر ببال، منها "إرغام المتهمين بممالأة الثوار بالسير مسافات شاسعة على الأقدام، في لظى حر الصحراء وتحت شمسها اللافحة، حتى الإشراف على الهلاك من شدة الإنهاك والعطش، فيقدموا لهم أواني بها بنزين يتصورونه ماء، فيكرعون فيه حتى يبتلعوا جرعات منه، وإذا لم يعترفوا بالتهم تصب عليهم بقية البنزين، وتوقد فيهم النار، فيتحولون إلى عبوات شاردة، يطلقون الصراخ، في مشهد لا يمكن لبشر أن يتحمله"  وكان نصيب نساء أژواد المتهمات باستدراج ضباط الجيش حتى يتمكن منهم الثوار، ضربا آخر مبتكرا من الوحشية "فقد تلقى ضابط تهنئة أسد الصحراء على أنه غسل يديه بدم ساخن لسيدة متهمة بالتعاون مع الثوار، عندما وجدها في أحد معاقلهم ". يتواصل ...
 





هناك تعليقان (2):

  1. ابوبكر الازوادي14 يوليو 2012 في 5:11 ص

    شكرا على المعلومات القييمة ما رايك بما يجري في الازواد اليوم

    ردحذف
    الردود
    1. السيد بوبكر المحترم شكرا لك على زيارتك الكريمة واهتمامك بما يجري في ازواد = نحن نتابع بأهتمام بالغ ما يجري في أزواد ونتؤلم لهذا العدد من اللاجئين والمشردين وهذه الدوامة التي دخلت فيها البلاد وهذا النفق المظلم نسأل أن ينجي أزواد وأهله الأكارم وأن يأخذ بأيديهم إلى ما فيه خلاصهم آمييين. وانا ارى ضرورة التنسيق مع دول الجوار واكواس والاتحاد الافريقي والامم المتحدة من اجل المساعدة في إجاد مخرج لهذه الأزمة . ودمت أخي الكريم بخير

      حذف